![]() |
رجاء بكرية أديبة، وفنّانة تشكيليّة |
حدث الأمر قبل مجيئي إلى العالم، بسنوات. كان عمّي جمال قد استقرّ في دولة أخرى وفي بيتٍ آخر أبعد من بيتنا في الجليل الغربيّ بأميال قليلة، وخارج الدّولة الّتي نعيشُ فيها، لبنان تحديدا. عن حكايتهِ لم أعرف الكثير، لكنّي حين كَبرتُ سمعتُ على لسان عمّتي ما أثارَ فُضولي. كان لاجئا وكانَ عمّي أيضا! حينَ زارَنا في طفولتي خِفتُ من لحيتهِ البيضاء الطّويلة.
هربتُ مِنهُ حَبواً وبكيتُ حينَ ناداني، تقولُ أُمّي. لا أذكُرُ غير هالةٍ بيضاءَ وسَبحةٍ طويلة من خشبِ الصّندل تفوحُ رائحتها بعطرٍ عميق، تمشي خلفَهُ كلّما اقتربَ من رأسي العنيدة، ثمّ غيابِهِ الطّويل حتّى اختفائهِ الكامل. لجأتْ عائلتهُ إلى لُبنان أيّام النّكبة، ومع لجوئهِ وُلدَ جيل عظيم من أيتامِ الوطن الأُم فِلَسطين. لم تكن تفاصيل الحِكايةِ مُمكِنة لولا مُلاحقتي لفستانِ عمّتي الّتي تعرفُ كلّ شيء عن طوابيرَ طويلة غادرت وطنها وعاشت في بلد يُمنَعُ عَلينا زيارتهُ.
"هكذا بِرَمشَةِ عَين صِرنا بدونِ بيت ولاجِئين" تقولُ عمّتي، وتُكتكِتُ يديها كأنّما تتخلّصُ من غُبارِ طحِين. كلّ أولئكَ الّذين تفصِلُنا عنهُم أسلاكَ شائكة من الأقرِباء والجيران صاروا بلا مأوى، ويعيشون تحتَ خيامٍ في أوطانَ لا تُريدُهُم، ومعهم فصول لا تُقرّأ منَ الحِرمانِ والجوعِ والفاقة. يُشرِف على تعليمِهِم ومأكلهم معلّمونَ تُعيِّنُهُم وكالةُ الغَوثِ للّاجِئين، مُنتَدَبة من قوى عالميّة ليست عربيّة.
كانَ مُجرّد الخوض فيما آلت إليهِ أحوال الّذينَ طُرِدوا من أرضهم في الجليل وسائر المدن والقُرى الفلسطينيّة من ممنوعات القانون في الدّولة الجديدة، وممنوعٍ آخر يقضي بألّا نُعلِنَ، نحنُ الباقين، عن هويّتنا الأولى صغارا وكبارا، ممنوع لم نفهم نحنُ الصِّغار مَعناه.
حينَ انضمّت للحكاية حكايا لجوءٍ أُخرى في العالَم فَهِمنا أنّ الطريقَ إلى الفَرَح أطول ممّا نتخيّل. "لم تُختصرِ الحكايةُ بعمٍّ واحدٍ، بل أعمام يخرجونَ من المشاحرِ الّتي تَطبُخُ الفحمَ الّذي نتدفّأ عليهِ في الشّتاء البارد تحتَ الخيام"، تقولُ ابنة عمّي ناهِدَة وتضيف، "كانت بيوتا خفيفة وتطيرُ أمام هبّةِ ريح" تَكتُبُ ابنة عمّي جمال، الّتي راسلت أمّي عن طريق الصّليبِ الأحمر لمدّةٍ طويلة قبلَ أن تختفي آثارُها هي الأخرى تماما.
لم تكُن عائلة واحدة، بل عائِلات. بيوت كاملة، حواري وقُرى أُفَرِغَت من أصحابِها، والبِلادُ لم تبق بلاد. تبعثَرَتِ الحياةُ هنا وتوزّعت على دوَل كثيرة، لبنان، سوريّا والأردن، أسماء نعرفها وأخرى لم نسمع بها. تغيّرت الأسماء والوُصولُ باتَ أصعبَ ممّا تخيّلَ اللّجوءُ ذاتهُ.
حينَ توقّف عمّي عن زيارتنا، فهِمتُ أنّهُ خارج الحياة ومعهُ ابنتهُ ناهِدة وكلّ الّذينَ أُخرِجوا عُنُواً من بلادِهِم إلى طريق لا يعود.
كلّ هؤلاء الّذين يشبهونهُ دخلوا مدرسةً واحدة يطلِقونَ عليها "مدرسة المَنفى"، وصِغارها يكتُبونَ الأحلامَ بأصابعَ مبلولة لوعةً على الهَواء، لذلكَ أسميناها في سُخريتنا المُرّة من واقعِنا، نحنُ صِغارُ الدّاخلِ الباقين، "مدرسةُ المِمحاة". مدارسُ فقيرة جدّا تُعلّمُ العَوزَ، والوحدة، بلا أقلامَ ودفاتِرَ، وكلّ ما تكتبهُ أَصابع الصّغار والكبار يمحوهُ الهواء.
بهذه الطّريقة وَصفت ابنةَ عمّي جمال ناهِدة المَدرسة الّتي تعلّمت فيها أن تكتبَ رسائلَها لأُمّي الّتي تصلُ محفورةً على ورقِ التّينِ المُجفّف والغار. "ببساطة يا حفيظة، لا نملكُ أوراقاً، وأسرارنا نكتُبُها بأصابِعٍنا على الهواء" تُشدّدُ ناهدة على كلِماتِها بانفِعالٍ يَخزُقُ ورق الشّجر المُجفّف الّذي يصلُ الى يدِ أمّي منهَكَ العُروقِ والحُروفِ من التّعب. في دول النّزوحِ تعيشُ تجمّعاتٌ كثيرة بأسماء مبهمة وغير مُعرّفة، قلّة قليلة تعرفُ كيفَ تستردّ أسماءَها وأصولها، لأنّ الحروبات لا تفهم أنّ للبشرِ الحقّ في أخذِ أسمائِهم معهم، وكلّ الّذين تتغيّر أسماؤهم وألوانهم وملابسهم، عائلاتهم وصداقاتهم وتتمزّق حكايا عشقهم لن يملكوا استردادها بسهولة مهما أصرّوا عليها. في العالم الكبير تعيشُ أسراب منسيّة من البشر في مدارس المنافي تَشعرُ بذاتِ الوحدةِ الّتي عاشَها عمّي جمال ويعيشُها أحفادُهُ من بعدهِ. ولذلك يبهتُ لونُ الفرح على كوكبنا المُزهر، وتخفتُ أصواتُ الغِناء وقصائد الغزل. فالّذينَ يُرَحلّون يَسحبون معهم تغريبةً حزينة طويلة تُظلّلُ الحياة بالبُؤس وقلّة الحظ. ربّما لأجل ذلك تنتشرُ فيهِ قارئاتُ الفناجين وضارباتِ الودَع كي يستردّوا عافيةَ الأمل. لو أنّ المنافي أقلّ لربّما اختفى المُنجّمون وتغيّر شكلُ الكُرةِ واكتسبت لونا لم نعرفهُ من قبل، بلونِ القلبِ أو الحياة.
حيفا، 024
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا