نُضْجُ القِصَّةِ العَرَبِيَّةِ الــمُعاصِرَة | أحمد شرقي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد التعليقات: 0 تعليق

فريد الخمال أحمد شرقي


 نُضْجُ القِصَّةِ العَرَبِيَّةِ الــمُعاصِرَة (1)

مجموعة "الشَّجَرَةُ الَّتِي تُخْفي الغابَة1" لفريد الخمال 

بقلم القاص أحمد شرقي


قد يُجمِع اليومَ، المنتمون إلى الحقل الأدبي العربي، على أن الزمن "زمنُ الرواية"؛ حيث استحوذ هذا الجنس الأدبي على المشهد الثقافي المعاصر، وشغَلَ الناشرين والمبدعين والقراء على حد سواء. 

لكن القصة القصيرة، رغم تراجعِها إنتاجا ونشرا، ظاهريا، تتبوأ مكانةً متميّزةً - وقد تكون خفيّةً - في مشهدنا الأدبي؛ إذ يُقْبِل على ولوج عوالمِها، وسَبْر أغوارها، كُتّاب شباب، اختاروها دون غيرها، ونَشرُوا أضموماتٍ قصصية، مؤسِّسين تجاربَ جديدة، تنتصر لطفلة الأدب المشاغِبة. فهل تتميز هذه الإنتاجات القصصية - العربية المعاصرة - بالنضج الفني، أم إنها مجردُ تمرينات كتابية تصبو إلى اقتحام ملعب الرواية فيما بَعْدُ؛ كما قد يرى بعضُهم؟!

للإجابة عن هذه الإشكالية، نقارب في قراءتنا هذه، تجربةً من تجاربِ القصة العربية المعاصرة، وهي تجربة الكاتب المغربي الشاب فريد الخمال، الذي صدر له بدايةَ العام الماضي، كتابٌ قصصي موسوم بـ"الشجرة التي تخفي الغابة"، عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع الأردنية.

يُعدّ فريد الخمال من الأصوات القصصية العربية الشابة، التي تشقّ طريقها الإبداعي بثباتٍ وتريُّث؛ إذ نشر، إلى حدود كتابة هذه الأسطر، مجموعتين قصصيتين؛ الأولى صدرت عن دار كتوبيا بمصر، وعنوانها "حين تغرب الشمس"، والثانية اختار لها عنواناً عبارة "الشجرة التي تخفي الغابة"، صدرت له عن دار خطوط وظلال. كما فازت روايته غير المنشورة "الحرّيش"، والموجهة للفتيان خصّيصا، بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الأخيرة (2023). ونشر أخيرا روايةً أخرى موجهة للفتيان، عنوانُها "ما رواه الفتى"، عن دار خطوط وظلال.


تجليات النضج الفني في تجربة الخمال:


قد لا يرتبط النُّضْج الإبداعي بسِنِّ المبدع، أو عدد إصداراته، والدليل على ذلك نجاح نصوص قصصية وروائية كانت بمثابة التجارب الأولى لكُتّابها، بل - أكثر من ذلك - فازت بجوائز أدبية مرموقة، أو بلغت مراتب متقدمة فيها. كما أن الكتابة، انطلاقا من التجربة الإبداعية الشخصية؛ كما فعل الخمال، لا تعود، دائما، إلى خبرة الكاتب الطويلة، ووفرة إصداراته. وقد انخرطت العديد من التجارب القصصية المنتمية إلى الحساسيات الجديدة، ذات النزعة التجريبية، في ما يُصطلح عليه بـ"الميتاسرد" أو "الميتاقَصّ".

في "الشجرة التي تخفي الغابة"، التي تقع في ثمان وثمانين (88) صفحة، ضامَّةً بين دفتيها اثنتيْ عشْرة قصة قصيرة، يتناول الخمال موضوعات اجتماعية جديدة، وأخرى مطروقة، معتمِدا على آليات الكتابة القصصية المعهودة، دون أن يغفل النزعة التجريبية، المنبنية على تقنيات جديدة حداثية، ينزاحُ نحوها عددٌ كبير من المبدعين الشباب اليوم، وهو ما دفعنا إلى طرح التساؤل الآتي: أين يتجلى التجريب في مجموعة الخمال؟ وهل هو مكمن قوة أم علامة ضعف فيها؟

لعل ما يميز "الشجرة التي تخفي الغابة" هو توظيف مبدِعِها أسلوبَ الميتاسرد في نسج خيوط قصص عديدة، متوسِّلا بالرجوع إلى الذات؛ الذات المبدعة وهمومِها وقلَقِها: "قريبا جدا، سأرى رسالةَ الموافقةِ تطْرقُ عُلبة الرسائل. سأختار اسمَ العمل والغلاف.. لن أتركهم يختارونَ شيئا. كما أنني سأراجعُ العَقد الذي سيربطني بالدار جيّدا..." (ص46).

ويُقصد بـ"الميتاسرد" الكتابةُ عن الكتابة في المجال السردي؛ برصد عوالمها التخييلية، وتحديد طرائقها، وتعرف انشغالات المؤلِّفين، وتبيان هواجسهم الشعورية واللاشعورية، ولاسيما المتعلقة بالأدب وماهيته ووظيفته، واستعراض المشاكل التي يواجهها المبدعون.

 إن الكتابة القصصية حسب جمالية التحديث، وفق ما يراه الناقد عبد اللطيف الزكري، في كتابه "جماليات القصة القصيرة العربية الحديثة والمعاصرة"، قد أصبحت اختراقا لا تقليدا، واستكشافا لا مطابقة، وإثارة للسؤال لا تقديما للأجوبة، ومهاجمة للمجهول لا رضاً عن الذات بالعرفان2.  

ويُعدّ الخطاب الميتاسردي من أهم مميزات هذه القصة الحديثة، مغربيا وعربيا، كما يُعدّ مظهرا من مظاهر التجديد والتميز الفني والجمالي. فبعد أن كانت القصة المغربية خاضعة للنسق الواقعي الكلاسيكي، منذ أربعينيات القرن العشرين، صارت، في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، وبداية الألفية الثالثة، تنحو منحى التجريب والتحديث؛ من خلال توظيف تقنيات سردية ملائمة، استلهمتها من القصة الغربية تارة، ومن الموروث السردي العربي القديم تارة أخرى؛ فـ"تحقق لها أنْ ثارت على نظرية الإيهام بالواقع، مستبدلة إياها بنظرية الميتاسرد أو الميتاقصّ Métarécit"3.


تمثّلات الخمال للواقع الإبداعي:


نُكْران:

تطرق القاص، في مواضعَ عديدةٍ من مجموعته، إلى أسئلة الكتابة والميتاسرد، وإلى معاناة مبتدئي الإبداع السردي في سبيل فرض أصواتهم الجديدة، في مشهدٍ يطبعه النكران والاستخفاف وتكريس بعض الأسماء؛ كما في قصة "قيد الطبع"؛ حيث يتحدث السارد عن حفل تأبين كاتب، مليءٍ بالخطابات الرنانة والكاذبة والمنافِقة، التي فضحتها (جميلة) - وهي ربما زوجة الكاتب - قائلة: "عزيزي نعمان، أعلم أنك لو كنتَ هنا، لحزنْتَ على هذه المنصّة من الجالسين عليها.. جميعهم كاذبون.. لا أحد منهم ساندك، ولا أحد منهم آمَنَ بك" (ص34).

ويضعنا عنوان هذه القصة أمام احتمالين؛ أولهما أن يلتزم أصدقاءُ الكاتب الراحل ومعارفُه بنشر مخطوطه ليرى النور، والثاني، وهو الذي يرجّحه السارد، أن تبقى خطابات حفل التأبين مجردَ خطابات ووعود، الهدفُ منها أخذ صورٍ، وتوثيقٌ زائف: "أخذ الضيف الثاني الكلمةَ، بعدما سلّم هاتفَه إلى شخص جالس في المقعد الأمامي لالتقاط الصور. سحبَ الابتسامة من شفتيه. غيَّر من ملامحه، وطأطأ رأسه يقرأ الورقة. كلما أنهى عبارةً، رفع رأسه يستحثُّ المكلف بتصوير مزيد من الصور، ويمسح عينيه من دموع لا يُحسّ بها، ولا يراها إلّا هو" (ص33).


مَخاضٌ عَسير:

ويتقاسم السارد، في هذه المجموعة القصصية، مع قرائه كواليسَ الكتابة، ومخاضها العسير؛ إذ يفتتح قصة "بدوية" بوصف معاناة كاتب، يعمل لدى مجلة، تُلزِمه بإرسال المقالات في وقت محدد، وهو الذي لا يقتنع بما يكتب، ولو بعد مراجعات كثيرة؛ لإصابته - كما يزعم - بعدوى التدقيق والمثالية: "طيلةَ اليوم، وأنا قابعٌ في ركن المقهى، ولم أهتدِ بعْدُ إلى إكمال المقال بالكتابة. المرَّة العشرون على مراجعته.. كل مرة أعيد فيها قراءته، أحذف أو أعدّل فِقرة منه. لا أدري متى سأنتهي، وأرسله إلى المجلة، وأستريح؛ فالكتابةُ عملٌ شاقٌّ" (ص36).

إنّ شخصية السارد المبدع، المثقلَةُ بهمومِ الكتابة وقلقِها، تتخلل معظم القصص، ولو لم يكن موضوعها هو "الكتابة"؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى قصة "بدوية"، التي تحكي قصة امرأة تتفاوض في المقهى، على مقْرُبة من السارد، مع سماسرة تجارة الأعضاء لبيع عضو من أعضاء جسمها؛ بسبب ضيق ذات اليد، وموتِ زوجها، تاركا لها مسؤولية الأبناء... انتهى التفاوض، ووافقت السيدة، وأخذت مظروفا، وحدّدوا موعدا لإجراء العملية، وأخذِ مظروف ثانٍ. بينما بقي السارد في مكانه، دون أن يكمل مقاله.. "عقلي أصابه الخمولُ؛ فتعطلت خاصية الربط والتحليل، إلى أن أيقظني صوت الساعة المعتلية للحائط، وهي تشير إلى السابعة مساءً. لقد ضاعت فرصةُ الاستمرار في العمل بالمجلة" (ص42). 


تَرَقُّبٌ وَغُرُور:

وفي قصة "جرسُ إشعارٍ"، يتناول القاص معضلة النشر، وإثبات الذات بالنسبة إلى الجيل الجديد في عالم الكتابة؛ إذ يحكي فيها قصة كاتبة مبتدئة، تجري وراءَ تحقيق حلمِها، وهي تحْسِب أن نَيْل صفحتِها الفَيْسبوكية "لايكات" كثيرة، وتعليقات أكثر، يخوّل لها، بسهولةٍ، نشرَ كتاب ورقي: "أتممت المنشور رقمَ مئة، فطرحْتُ سؤالا على جمهوري، لأني أثق في رأيهم؛ فلولا وجودُهم، لما وصلت إلى ما أنا عليه: ما رأيكم في أن أجمع ما أكتبه في كتاب واحد، وأنشره ورقيا؟ مضت دقائقُ، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة؛ فانهالت التعليقات من المتابِعين الأوفياء: فكرةٌ ممتازة، سأكون من السباقين لاقتنائه..." (ص45).. تشجيعاتٌ دفعت الكاتبة "نورهان الإبراهيمي" إلى جمع وتصفيف كتابها الأول؛ استعداداً لإرساله إلى دار نشر، وهذا ما قامت به فعلا؛ إذ راسلت دور نشر عديدة، لكن دون ردّ. وظلت تائهة تترقب، وتتفقد علبة الرسائل مرارا: "قريبا جدا سأرى رسالةَ الموافقة، تطرقُ علبة الرسائل. سأختار اسمَ العمل والغلاف.. لن أتركهم يختارونَ شيئا. كما أنني سأراجعُ العقد الذي سيربطني بالدار جيّدا..." (ص46).

وبعد إلحاحٍ من الكاتبة، جاء الرد قاسيا: "تحية طيبة، إن سياسة الدار في استقبال الأعمال واضحة جدا.. لا نرُدُّ إلا على العمل الذي حصَل على موافقةٍ من لجنة القراءة. حظّا أوفر" (ص48).

فهُنا، يطرح الكاتب آفة الغرور، التي قد تصيب بعض الكتاب الشباب؛ بسبب انتشارهم السريع والمخيف في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما سقطت فيه الكاتبة نورهان الإبراهيمي أيضا: "قرأتُ الرسالة بسرعة، وأعدْتُ قراءتها للمرة العاشرة، وفي كل مرة ألعن هذه السياسة المشؤومة التي تستثني المشاركات.. هكذا دون مبرِّر واضح! هذا أكبر دليل على سياستهم المشبوهة، وعلى أنهم لم يكلفوا نفسهم قراءة العمل! عملي، الذي حظي بإعجاب متابِعِي صفحتي، يُرفض!" (ص48).


خاتمة:

إن اهتمام فريد الخمال، في مجموعته "الشجرة التي تحفي الغابة"، بالذات المبدِعة، ورصده بعضَ آمالها ومخاوفها، وبعض إيجابياتها وسَلبياتها، ينِمّ عن نضجِ هذا الكاتب الشابِّ، ذي التجربة الفتية، ووعْيِه بخبايا اللعبة السردية. ويمكننا القول إن العمل الإبداعي، الذي حاولنا مقاربته، يندرج ضمن خانة القصة التجريبية؛ من خلال اعتماده أسلوب الميتاسرد في الأساس. كما نَخْلُصُ، من خلال تطرقنا إلى التجربة القصصية الثانية لفريد الخمال، إلى أنه كان مُوفّقا، وذكيا في توظيف هذا الأسلوب في إنتاجه القصصي، متوسلا تارة بالسخرية والتهكم، وتارة بالتعاطف، وهو ما يُظهر تمكُّنه الواضح من حرفة السرد. 


هوامش:

1- فريد الخمال: الشجرة التي تخفي الغابة، خطوط وظلال، الأردن، ط.1، 2023.

2- عبد اللطيف الزكري: جماليات القصة القصيرة العربية الحديثة والمعاصرة - دراسة في المكونات الفنية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2012.

3- جميل حمداوي: أشكال الخطاب الميتاسردي في القصة القصيرة بالمغرب، مقال منشور في موقع "أنطولوجيا"، 5 مارس 2018 https://alantologia.com



مجلة فن السرد | قراءات ودراسات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث