المبدعة كريمة أحداد |
"عمارة السعادة"... التقاطعاتُ المدهشة بين الأدب والحياة
"على المرأة أن تمتلك بعض المال وغرفةً خاصة إذا أرادت أن تكتُبَ عملاً روائياً"، بهذه الكلمات استهلّت الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف كتابَها "غرفة تخص المرء وحده"، وهو كتابٌ مهِمّ يتناول أثر الاستقلالية الاقتصادية على العملية الإبداعية. حين أمسكتُ الكتاب بين يدي قبل سنتَين وقرأتُ هذه الكلمات، لم أكُن أعلم أن حياتي ستتحوّل إلى شيءٍ آخر مختلفٍ تماماً.
يقولون إنّ الكتُبَ تغيّرنا، والقراءة تبني شخصياتِنا وتصنعُها. يحدث ذلك مع الوقت، رويداً رويداً. يتطلّبُ سنواتٍ طويلة ليظهرَ التغيير، لنحسّه ونحنُ نخطو في الحياة. في حالتي، كان التغييرُ مباشراً. كان هناك بركانٌ يقبَع في داخلي، وفجّرته كلماتُ فيرجينيا وولف.
غادرتُ إسطنبول في يونيو من العام 2021 نحو فرنسا. تركتُ عملي وتوجّهتُ إلى باريس مُحمَّلةً بالأحلام والآمال. كنتُ أظنّ أنّ التفرّغ للأدبِ سيجعل منّي كاتبةً حقيقية. سأذهبُ إلى مدينة الفنّ والثقافة والمتاحف. سيكون لدَيّ كثيرٌ من الوقت. سأقرأ كتُباً كثيرة. وسأكتُب. سأكتُب كثيراً، في الصباح عندما أغادر سريري، وفي الليل قبل أن أخلُد إلى النوم. لن تكون لدَيّ مسؤولياتٌ مهنية ولا اجتماعاتُ تحرير مزعجة ولن أضطرّ للذهاب إلى مكتب ولا لكتابةِ مقالاتٍ صحافية تستنزفني أدبياً. كنتُ متأكدةً من ذلك. سأكون كاتبة، فقط.
ومع ذلك، كانت هناك غُصّةٌ عميقةٌ في حلقي وأنا أغادر إسطنبول الساحرة، وحيّ جيهانغير الذي عشتُ فيه ومشيتُ في دروبه البهيجة المفعمة بعبق التاريخ وأحببتُه وقرأتُ عنه في كتُبِ الروائي التركي الأقرب إلى قلبي أورهان باموك. باموك الذي تمنّيتُ أن ألتقيه وحلُمتُ بمحادثةٍ أدبيةٍ طويلةٍ معه.
ما إن وصلتُ إلى باريس حتى واجهتني سماءٌ رماديةٌ متجهّمة، وشقّةٌ تبلغ مساحتُها خمسين متراً. ـ على المقبلين على الزواج أن يبحثوا دائماً عن شقّةٍ بغرفتين وصالون حتى يجدا مكاناً يهربان إليه ويلعنان فيه الشيطان إذا حدثَ وتشاجرا أو ملّ بعضُهما من بعض. لم تكُن لدَيّ هذه الغرفة، وكنتُ أقضي وقتي في الصالون أستمِع إلى اجتماعاتِ العمل وصراخ الأطفال والأحاديث على الهاتف. حتى أصواتُ الضراط كانت تصلُني وتزعجُني من شدة ما كنتُ متضايقة. كنتُ أشعر كما لو كنتُ داخل علبة كبريت، قلقة وغير قادرة على تحمّل نفسي. كيف سأكتُب العمل الأدبي الذي أردتُ أن أكتبه عندما أتفرّغ؟
وأخذت الأيام تمرّ، والشهور... ولم أكتُب حرفاً واحداً.
لكنني لم أكُن أفهم تماماً ما الذي يحدُث لي. هل هي روايتي حلم تركي التي تأخر صدورها بعد توقيع العقد بحوالَي سنتين أفقدتني الرغبة في الكتابة؟ فالعملية الإبداعية تشبِه الإنجاب، والكتابةُ كالحمْل. تحمل كلماتِك وأفكارَك وقصصك وشخصياتِك وهناً على وهن، وحين تنتهي، عليكَ أن تلِدها. الولادة هي النشر. لن تستطيع أن تحمِل جنيناً آخر في بطنك ما لم تلِد الجنين الذي اكتمل نموّه داخلك.
هل هو الملل؟ هل هو الكسل؟ هل هو التعب؟ هل هي انشغالاتُ الحياة التي لا تنتهي؟ هل هو الاكتئاب؟
لم أعرف الجواب. كلّ ما كنتُ أعرفه أنني مسكونةٌ بالكتابةِ كأنني مسكونةٌ بجنّي، وأنني إذا لم أكتُب، سأُجَنّ. أخذتُ حاسوبي وتوجّهتُ إلى مقهى في مدينةٍ هادئة في الضاحية الباريسية، وحاولتُ أن أبدأ في كتابة روايتي الثالثة. لم تكُن الفكرةُ قد اكتملت في رأسي بعد، لكنني أقنعتُ نفسي أنني لن أجدَ طريقي ما لم أخطّ الكلمات الأولى، خاصّةً وأن الشخصية الرئيسية كانت واضحةً في عقلي: شهرزاد، امرأةٌ شابة تحلم أن تصير كاتبة، تقرّر الهرَبَ من ضغوطاتِ الحياة في بيتِ أمّها وفي حيّهم، فتستأجر شقّة في مبنى بالدار البيضاء يُسمَّى "عمارة السعادة". تبدأ شهرزاد الكتابة، وأتوقّف أنا عن الكتابة.
يائسةً، أغلقتُ الحاسوب، ولم أستطع أن أكتُبَ أيّ شيءٍ بعد ذلك أبداً.
في أواخر 2021، عثرتُ بين كتُبي على مجموعة الكاتبة المغربية لطيفة باقا القصصية "غرفة فيرجينيا وولف"، كانت قد أرسلتها لي من مراكش إلى طنجة كهدية قبل سنوات، واستهلّتها بمقولةِ فيرجينيا وولف عن أهمية امتلاك المرأة لبعض المال ولغرفةٍ خاصة حتى تستطيع أن تكتُب عملاً روائياً. بمجرّد ما قرأتُ عبارةَ وولف، ودون تفكير، اقتنيتُ الكتاب وعُدت راكضةً إلى البيت وقرأته في جلسةٍ واحدة.
وكأنّ الكاتبة فتحَت نوافذ في عقلي، ونفضت عن قلبي الغبارَ العالق به، وجدّدت الهواء في دواخلي. لم أعرف كيف، ولا في أيّ لحظةٍ بالضبط حدَث ذلك، لكنّ الأمرَ حطّ على روحي كالإيمان: على المرأة أن تكون مستقلّةً مادياً كي تُبدِع، أن تمتلكَ غرفتَها الخاصة، بيتَها الخاصّ، شقّتَها الخاصة كي تصير روائية.
كان هناك نداء يتردّد في داخلي: علَيّ أن أعود إلى المكان الذي جئت منه. وكما لو أنّ الكون سمِع صرختي المكتومة، استجابت إسطنبول مرّةً أخرى (وأحسبُها لا تخيّبُني أبداً، فقد سبَق واستجابَت من قبل)، وعدتُ بعد شهور معدودة إلى هذه المدينة البهية التي أحببتُها دائماً.
بمجرّد ما حططتُ الرحال في فندقٍ بإسطنبول، رحتُ أبحث عن بيتٍ للإيجار. زرتُ حوالي عشرين شقّةً في مختلف المناطق والأحياء في الجانب الأوروبي للمدينة، لينتهي بي الأمرُ في شقّةٍ في الحيّ نفسِه الذي كنتُ أسكُنه قبل سنوات، وفي مبنى اسمُه "عمارة السعادة". لم أنتبه في البداية للصدفة التي جعلت المبنى الذي أسكنه والمبنى الذي تسكن فيه بطلتي يحملان الاسم نفسه. عمارة السعادة. لكنني أدركتُ في ما بعد أن الأمرَ لم يكن صدفةً أبداً، بل كان، في الواقع، صرختي اللاواعية التي استجاب لها الكون، صرختي النابعة من رغبتي في أن تكون لدَيّ مساحتي الخاصة، وتوقي لحياةٍ أجمل وأكثر سعادة.
في أواخر يونيو من العام 2022، جلستُ إلى الحاسوب في البهو الفسيح لشقّتي الجديدة في عمارة السعادة في إسطنبول. كانت الشمسُ تلقي بأشعتِها على المكان وتبعثُ في داخلي شعوراً بالبهجة والرضى، ولم يكُن حولي صراخٌ ولا ضجيجٌ ولا حركةٌ مزعِجة. ومثلَ معجِزة، اكتملت الفكرةُ في رأسي، وصارت القصة واضحةً تماماً. وفي الشقةِ التي تخصّني وحدي، نجحتُ في كتابةِ روايتي الثالثة.
"أنا امرأة تقليدية جداً، أفضّل الولادة في شقتي، على الولادة في مصحة".
مجلة فن السرد | زوايا