أشياء لن تحدث | هندية القطيبي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد التعليقات: 0 تعليق

أشياء لن تحدث هندية


بقلم هندية القطيبي - اليمن


 

  يطلب منها ابنها الشاب بعجالة أن تترك كل شيء من بين يديها وتأتيه على الفور. تقترب منه، يوجِّه شاشة هاتفه المحمول أمام ناظريها، ثم تغرق النظر في صورة.

الصورة لشخصين تظللهما شجرة سدر معمّرة. على اليمين تقف امرأة ستينية تضع وشاحاً أسوداً على رأسها، متوسطة القامة، لعينيها الجاحظتين نصيبٌ من الحزن والنقم. إلى جانبها يقف رجل في عقده السابع، كل شيء في طلته ينم عن وجاهة ووقار، من طوله الفارع وقوامه الرشيق إلى لحيته البيضاء الكثيفة، التي تغطي نصف وجهه الأسمر كحبات البن السمراء في بلاده العتيقة. يده اليمنى في جيب بنطاله الأسود، وبذراعه اليسرى طوق خصر من كانت بقربه.

يمتقع وجهها وهي تحملق في الصورة، فكيف لرجل غريب أن يضع يده حول خصرها، وكيف وصلت صورة كهذه لهاتف ابنها. تتسارع دقات قلبها كلما أمعنت النظر فيها، يبادرها ابنها بالسؤال:

      - من هذا الرجل؟

بالكاد تحملها قدماها لتجلس وهي ترتعش خوفاً، ولكي تمنح لنفسها فرصة لاستيعاب الموقف، تقرر أن تبتلع الصدمة وترد عليه بهدوء:

    - ألا تخشى أن يأتي أبوك الآن، ويرى هذه الصورة ويقلب البيت على رؤوسنا.

    - لماذا؟ ومن عساه يكون؟

يصفرُّ لونها عند تكرار السؤال، تشعر بأنه من المخجل أن تظل صامتة، ولكن بماذا ستجيب؟ وسؤال كهذا لامرأة في وضعها لابد لإجابته أن تتحدى المبادئ التي تشدقت بتمسكها طيلة هذه السنين العجاف.

 تساورها الشكوك (أيعقل أنني...) لم تسمح للظنون الآثمة أن تهز كيانها الذي حافظت عليه وواجهت لأجله أقسى الكلمات. تحدق في وجه ابنها، تظن بأنها سترى نظرة الاحتقار تطفح من عينيه اللتين كانتا _على العكس_ ترقبانها بتلهف للإجابة.

تدور الغرفة بها وهي تحاول أن تجمع ركام الذاكرة. زوبعة من الأسئلة تتضاعف في مخيلتها القاحلة. ترى من هذا الشخص؟ وكيف تجرأ أن يضع يده بهذه الطريقة، وهي الوفية التي لم تخن العهود والصبية التي باغتتها الشيخوخة في غير أوانها. يقطع ابنها تلك العواصف التي أثارتها صورة ليست لزمنها الجميل، صورة بحداثتها صفعت كل قديم عالق بين جدران ذاكرتها:

   -  حاولي أن تتذكري؟

تنتفض من مكانها لتحضر نظارتها الخاصة بالقراءة، فلعل العتب على النظر. تزيد من سطوع الشاشة تتفحص ملامحه جيداً، وبسبابتها وإبهامها المرتعشين تقرِّب الصورة أكثر نحو عينيه، لعلهما تجيبان وتمنحان السكينة لروحها.

يباغت شرودها بالتقاط هاتفه بسرعة خاطفة ويقول بيأس:

   - دعيكِ من هذه الصورة، سأريكِ صوراً أخرى.

يتعكَّر صفوها، ويختل توازنها النفسي، الذي جاهدت للحفاظ عليه طيلة سنوات النسيان البعيدة، ثم تصطك أسنانها ببعضها. 

تنهره بعد أن تنهدت بغيظ:

   - لا تريني أي شيء. واضح أنك مصر على أن يقلب أبوك البيت على رؤوسنا.

يدرك الابن حينها فداحة الأمر الذي قام به. ويبدأ بحذف كل الصور المعدلة بالذكاء الاصطناعي، من تلك الصورة لوالده المتوفى منذ ثلاثة وثلاثين عاماً، إلى صورته وهو يقف مستغنياً عن كرسيه المتحرك ولأشياء لن تحدث.


مجلة فن السرد | مشاتل

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث