التجلي والتخفي الأسطوري في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" لبثينة العيسى | أنيسة بوعيش

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد التعليقات: 0 تعليق

 

بثينة العيسى رواية


تمهيد للتدرج


تسعى الرواية دائما إلى خلق وشائج لا متناهية مع الواقع، لتمنحه التفسير القابل للشك، ولتحول كل اليقينيات التي يدسها المجتمع في العقول، إلى شك قد يقبل اليقين، وقد لا يقبله، وكما أن الإبداع دوما كان محط جدال، فقد كانت الرواية السبيل الأول بعد الصمت لتقبل تفاهة الحقيقة في غياب اليقين.

ويقينا فإن بثينة العيسى خاضت الكتابة بكل جرأة واعتبرتها أمرا يحتاج للتدريب الدائم، فالإلهام لوحده لا يستطيع أن يحول الكاتب إلى كاتب مبدع، لهذا اتسمت كتاباتها بالاختلاف، وإن عبرت عما يسكنها من أسئلة تجاه التاريخ والسياسة والدين، فالبساطة مجرد قناع يخفي العمق والتعقيد، ووجها من أوجه الحقيقة.

 وتحضر الأسطورة في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" بطابعها الرمزي، فإذا كانت الأسطورة ترمز للواقع وتخفي خلف طابعها الخرافي أجزاء مفقودة من وجه الحقيقة، فإن بثينة العيسى في هذه الرواية امتطت قلمها لتبلغ به قاع النفس البشرية في شخص عائشة التي فقدت فلذة كبدها بغتة، وقررت الفرار إلى الموت لتتخلص من وجع الفقد وتأنيب الضمير، غير أن ثنائية إنانا وعائشة اشتغلت في الرواية بشكل معلن دون حاجة لتأويل قابل للتأويل.


المضمر المشاكس في عتبة العنوان



 يُعدّ العنوان القناع الأول الذي يضعه الكاتب لمراوغة القارئ، ويأخذ حيزا كبيرا من وقت واهتمام المبدع، وبلمحة بسيطة لأعمال بثينة العيسى، تجد بأن عناوينها دائما لافتة للنظر وتقود القارئ مباشرة للاستغراب وطرح السؤال، ومن ثمة التهام العمل الروائي لفهم الترابطات الظاهرة والمضمرة بين العنوان والمتن، ف"عائشة" الجزء الأول من العنوان يحيل بشكل مباشر إلى رداء الدين وما يلزمه من إيمان واحترام للحدود قبل أي شيء آخر، لكن بثينة العيسى تكسر هذه القاعدة وتتجاوز هذا الحد بكل ما أوتيت من كبرياء طفولي بالجزء الثاني من العنوان الذي كتب بخط أصغر وأقل وضوحا من عائشة، المتربعة على عرش الغلاف "تنزل إلى العالم السفلي"، ولعل هذا التناقض هو تناقض بشري وطبيعي، لأن الكاتبة تكتب دائما بشخصيات وعن شخصيات رامزة للواقع ومفسرة ومؤولة له، ورغبة الشخصية الحاملة لاسم بنفحات دينية في الموت والنزول إلى العالم السفلي حيث الجحيم، وهو نزول اضطراري بفعل الرغبة في موت رحيم على هيأة انتحار.

ويصدمنا الغلاف بعبارة "أنا عائشة سأموت بعد سبعة أيام

وحتى ذلك الحين قررت أن أكتب". فهذه العتبة النصية المصاحبة للعنوان تحيل إلى هوية الشخصية الراغبة في الموت بعد سبعة أيام، لكن الكتابة ستهون هذا المسار بتقليص نفسي للزمن البطيء، إذ تشعر الشخصية بالانفلات والضياع بسبب الموت الذي اقتلع من روحها ركنا عزيزا.

يقودنا اسم "عائشة" إلى الرغبة في عيش الحياة بكل ما تحمله من فرح وألم، فالبطلة في هذه الرواية كانت على قيد الحياة قبل أن يقيدها الوعي باستفهاماته، والموت بشعور الفقد، فلم يبق من اسمها إلا رقم محدود النهاية وهو سبعة أيام، والذي يصادف ذكرى وفاة عزيز، حيث ستلحق به بعد أن تملأ هذه الفجوة الزمنية بالكتابة " لقد قررت أن تكون أيامي الأخيرة على هذه الشاكلة. أقصد: على شاكلة الكتابة. الكلمة كائن هش ومتهافت، إنها تشبهني. وأنا.. في أيامي الأخيرة، أريد أن أشبهني بقدر ما أستطيع. إنني أفعل ذلك من أجلي. هذه الأوراق، هذه الكتابة، هذا الجرح: لي أنا." 

غير أن فعل الكتابة في الرواية يأخذ طابع المذكرات اليومية، فصفحات هذا العمل موسومة بتاريخ وزمن محددين، لكن على الرغم من ذلك نعجز عن تجنيس العمل سيرة ذاتية لأننا على إدراك تام بالتحايل الأدبي للكاتبة إذ تقول: " هذه الرواية مستوحاة من قصة حقيقية، وقد كتبت بتواطؤ صريح من شراسة الواقع ومجاز المخيلة'.

ويشكل الموت داخل الرواية النقطة التي تتجاذب حولها الكتابة والحدث والشخصية، فالكتابة في الرواية استقصاء ملموس للزمن النفسي المراوغ، والحدث يتماشى مع هيأة الزمن الغامضة إذ تسعى "عائشة" إلى الموت الاختياري مرورا بنفق الكتابة المظلم، ولتعويض الذات عن المفقود "عزيز" اختارت الأم اللحاق به طلبا للسكينة "لقد مات ولدي فعلا، لا توجد طريقة لطيفة لقول ذلك، لا توجد طريقة صحيحة أو كلمة صحيحة، تفسّر ميتة طفل". وتغوص بثينة العيسى بالقارئ في ثنايا النفس البشرية غوصا شبيها بطبيب نفسي يستقصي العلاج لمريض يائس، فمعضلة عائشة في الرواية الفقد الاضطراري للابن، والثقوب النفسية التي اعتلت روحها قبل الزواج والإنجاب وكان موت الطفل حدثا فضح المستور وعرى المسكوت عنه. 


التعطيل السردي والتحريف الأسطوري


إن اتخاذ الأسطورة كبنية سردية للرواية جعل العالم المحكي مشتتا بين عائشة وإنانا، وكان ذلك بمثابة تعطيل سردي للأحداث اتخذته الكاتبة كذراع واقي لبناء الحدث وهدمه في الآن نفسه، فعائشة قررت الموت بعد سبعة أيام مرورا بسبع محطات ذاكراتية فاصلة تعيدها للحظة الفقد وما قبلها، أما إنانا فقد خاضت العالم السفلي بأبوابه السبعة للانفلات من ذاتها المحملة بالوعي، وإذا كانت إنانا تتصف بصفات ذات طابع ألوهي فإن عائشة اعتبرت الكتابة فعلا خارقا مكنها من تجاوز العادي والمعتاد في حياة البشر، ذلك أن الكتابة فعل يتسم بالإعجاز الدائم لقدرته على خلق عوالم متخيلة، أو تحويل الحقيقي إلى متخيل.

ولا شك أن التحريف سمة الكتابة الإبداعية لكونه يغير ما يعجز عن تغييره في الواقع، ويهدم ما يصعب هدمه في القوالب الاجتماعية، وكما استطاعت إنانا أن تحول الموت لفعل أسطوري قابل للتعطيل والتحريف والتغيير فقد استطاعت عائشة أن تجعل من الكتابة سبيلا لإعادة بناء الذاكرة الفاقدة لمسوغات الوجود بعد موت الابن، غير أن الفعل الخارق والخرافي في الرواية محدود ومموه، إذ كما ترغب الأم في الاستذكار ترغب في استبطاء الزمن قبيل حلول ذكرى الوفاة.


الأمومة كقربان: رحلة من الانحدار إلى الوعي


لقد طرحت مسألة الفداء والتضحية منذ القدم وفي كل الثقافات، منها ما أخذ طابعا أسطوريا خرافيا ومنها ما اتسم بطقوس دينية على شكل قرابين، غير أن الرواية بطابعها الملتوي تتصف بالقدرة على دمج وخلط الأسطوري بالديني والثقافي والتاريخي والاجتماعي، وبما أن عائشة في الرواية تسير بشكل حثيث نحو الموت فقد كان القربان الذي قدمته لبلوغ عتبة العالم السفلي هو الكتابة، حيث ذرفت دموعها على شكل حروف، وأحاسيسها المختنقة اعتلت الكلمات الموسومة بالقلق، ولعل هذا يحاكي إنانا في الأسطورة السومرية التي قررت التخلص من ما ترتديه قبل بلوغ الباب الأخير من العالم السفلي لتعيد دموزيد للحياة، ويمكن الإشارة إلى أن العلاقة بين إنانا ودوموزيد الزوج علاقة في غاية الإرباك والإجهاد، فقد تظهر حينا على أنها رباط إنساني بين حبيب وحبيبة، ويظهر في حين آخر وكأنه رباط فطري أمومي، فسواء كانت إنانا حبيبة أم أما فقد استطاعت تجاوز عقبات العالم السفلي بأبوابه السبعة، لكن الفعل الخرافي لا يصدق على الحياة الواقعية، لكون عائشة عاجزة تماما عن إعادة الميت للحياة لكنها تستطيع اختيار الموت بإرادتها الحرة المطلقة، والغريب في الرواية هو استحضار عوالم تتسم بالمفارقة لبناء عالم يوتوبي غير متاح في الواقع لكنه متاح في زمن آخر.

تدخل عائشة الباب الأول من العالم السفلي"- تعالي فادخلي ياعائشة. إنني أدخل البوابة الأولى، عتبة العالم السفلي. إن قدمي تعبر الآن مملكة الأعالي. ادخلي ياعائشة، ولدى دخولك البوابة الأولى اخلعي عنك جلد المكان" "اكسري الإطار ياعائشة وتخففي منك"، ومسألة العبور من باب لآخر رهين بالتخلي عن أشياء ذات قيمة لكن بالتدريج، ففي البوابة الأولى تخلت عن عائشة عن الحيز المكاني بقيوده الزمنية فكسرت الإطار الذي قد يجعل منها مقيدة بين أسوار المكان والزمان. أما البوابة الثانية فقد كانت المحطة التي انتفضت ضد الزمن بما يحمله من وعي وإدراك، "ادخلي يا عائشة ولدى دخولك البوابة الثانية انتزعي من روحك حسك بالزمن، الزمن جرحك الفادح يا عائشة". ولتنتقل عائشة للبوابة الثالثة كان الثمن هو خلع الأب والأم "ادخلي يا عائشة ولدى دخولك من بوابة الموت الثالثة أخرجي نفسك من نفسك، اخلعي عنك الأم والأب"، وفي البوابة الرابعة تركت خلفها رابطة الأخوة، "ادخلي يا عائشة أنا حارسة البوابة الرابعة وأنا الماضية إلى حتفها رقصا وأنا الأغنية" ثم في البوابة الخامسة تعرت عائشة من رباط الزواج " ها أنا أعبر بوابة الموت الخامسة. ماذا سأخلع الآن...انتزعي عنك زوجك، الزواج رباط، الرباط قيد، القيد حجاب، الحجاب عماء"، وقبل بلوغ البوابة الأخيرة تركت عائشة الكتابة "ادخلي يا عائشة، ولدى دخولك من بوابة الموت السادسة اخلعي عنك تلك التي تحبين: الكتابة، ذريها وراءك وامضي من غير حروفك سكونها وعجيجها"، ولأن الفقد كان العجلة التي حركت أحداث الرواية ففي البوابة السابعة تعرت من ابنها عزيز، فقد كان امتلاكه وفقده بمثابة سيف ينخر روح عائشة ببطء شديد، "ها أنا أعبر بوابة الموت السابعة. أنا على عتبة الرحيل الأخيرة. أرى العدم. ادخلي ياعائشة أنا حارسة البوابة السابعة، أنا الحجاب الأخير الذي يحول بيني وبين النور. ولكن لكي تدخلي ينبغي أن تتخلي عنك كاملة ولم يبق منك إلا أن تخلعي عنك جرحك الصريح- ولدك وذكراه".

 ويقينا بأن التوافق والتوازي الحاضرين في الرواية بين عائشة وإنانا توافق يحمل بين ثناياه بعدا خرافيا يشير ترميزيا إلى عسر التأويل وتعدده، فكما قلنا سابقا بأن العلاقة بين إنانا ودوموزيد علاقة مربكة ولا توجد ثوابت صريحة لمسألة رغبة إنانا في إخراج دوموزيد والحلول مكانه على سبيل التضحية، وتعدد التأويلات لا ينقص من أهمية المخاطرة والمغامرة التي قامت بهما إنانا، وكما أن عائشة في الرواية فدت نفسها بنفسها فكانت هي الرهان والقربان، فكذلك إنانا تخلصت من المرئي والبسيط وذهبت للعالم السفلي حيث الغيبي والمعقد. فـ"مثلما خلعت إنانا صولجانها وتاجها وثيابها وحليها في كل بوابة من بوابات العالم السفلي، لتكتشف ذاتا عارية وخفيفة بلا زوائد ولا نتوءات، "كنت أقوض كل جسر يربطني بهذا العالم وأقطع كل صلة ممكنة، المكان والزمان والذاكرة، الجرح والحب والعائلة. كنت أتخفف من كل شيء، كنت أكونني."

 والجدير بالذكر بأن الكاتبة جعلت من بطلة روايتها تحاكي إنانا إلى درجة التماثل، وعلى الرغم من الفروق الزمنية والسياقية غير أن الذات البشرية دائمة التعقيد في الماضي والحاضر والمستقبل، لأن ثلاثية الزمن ليست مجرد وعاء ننتمي إليه ولا ندرك خيوطه الخفية أبدا، إلا من خلال تجربة العالم وهذا أمر مقلق ويطغى عليه الشك،"ربما أكون إنانا هذا العصر إن روحي متوهجة. فلأكف عن الكتابة إذن، وأذهب لتجربة العالم".


تلخيص وانفتاح


نمعن في تجربة العالم بتفاصيله الموحية بالاستيعاب، لكن التجارب تمنح الذوات إحساسا بالاهتزاز أمام الذات، تحاول عائشة في هذه الرواية تجاوز فقد ابنها من خلال سعيها نحو الموت بجهد وصراع، ظنا منها أنه السبيل للملمة الفقد، فالرواية صراع نفسي بين عائشة الأم وعائشة التي ترغب في الموت للتخلص من ثقل الوعي، سبعة أيام قبل حلول ذكرى وفاة عزيز وسبعة أبواب للعالم السفلي ولجتها عائشة إنصاتا لصوت إنانا. ولأن اقتحام عالم الموت متعب فمحاولة العودة لاقتحام الحياة متعب أيضا، لهذا قررت عائشة أخيرا تجربة العالم.

إن الامتثال لقانون السرد يجعل من العمل الأدبي ميالا للتشويش على القارئ، وهو تشويش ذكي يحمل بين طياته المكيدة الأدبية، لذلك فإقحام القارئ في عالم عائشة النفسي كان هو المنطلق لفهم التماثل والتمايز بين عائشة وإنانا، وإذا كانت الأسطورة السومرية مختلفة عن الأسطورة اليونانية فإن اختلاف الأحداث تمرير لمضمر وتبرير لغير المضمر، ذلك أن الأسطورة حضرت في الرواية كقناع رامز للحقيقة بأبعاده التخييلية.


هوامش:

 1- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 13

2 - بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 9

 3- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 15

 4- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017 ص 219

 5- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 219

 6- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 220

 7- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 220

 8- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 221

9 - بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 222

 10- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 222

 11- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 223

 12- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017 ص 225

 13- بثينة العيسى، عائشة تنزل إلى العالم السفلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 14/2017ص 226


مجلة فن السرد| قراءات ودراسات 




التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث