حافلةٌ وكتاب | عزيز القاديلي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد التعليقات: 0 تعليق

 

فن السرد
د. عزيز القاديلي

حافلةٌ و كتاب | عزيز القاديلي


 ركبت حافلة للمسافرين مساء ذات يوم عائدا إلى مدينتي. كانت المحطة مكتظة بالناس، الكثير من الناس: مسافرون وغير مسافرين، مقيمون وراحلون، و بقدر ما كان هناك العديد من الذاهبين، كان هناك عائدون، والمحطة في نشاط لا يتوقف و لا ينتهي.

 كنت أتأبط محفظتي، وبها كتاب وأوراق تسويد. ما أشتاق إليه في تلك اللحظة، هو أن أصعد الحافلة وأجد لي مقعدا كي أستمر في قراءة الكتاب. كان عنوان الكتاب "نهاية التاريخ" للكاتب فوكوياما، استعرته من مكتبة عمومية، وكان يمارس غواتيه و إغراءاته ابتداء من العنوان، ومن أناقة غلافه و أوراقه. له جاذبية غريبة خارجيا و داخليا.

 ما إن جلست حتى انسللت بكل هدوء وطواعية داخل جغرافية الكتاب. لم أنتبه لمن كان يجلس بالقرب مني، أحسستني أهوي وأهوي وقد أوصدت ورائي و بين جنباتي كل الأبواب دون إرادة مني، دون وعي، لم أعُد أهتم لمن حولي ولم أعر أي انتباه للضجيج والحركة والازدحام. كان عدد الواقفين أكثر من الجالسين، غطست داخل الكتاب وانعدم أثري بالنسبة لي، غطست داخل حروفه محاولا تتبع الكلمات والجمل والفقرات والفصول، كانت عيناي تنهبان كل شيء، تلتهمان العبارات و التفاصيل، وكان ذهني يسعى جاهدا للقبض على المعاني و الأفكار، كانت هذه الأخيرة تجري وأنا وراءها أجري لاهثا، كما لو أنني أحمل بيدي شبكة صيد أرميها بين الفينة والأخرى لاصطيادها، فتقع بعض الأفكار في الشبكة، وتنسل منها أخرى مبهمة عصية على الهضم والاستيعاب.

 كم كان المعنى مبهجا وثريا، والذهن يصحو ويتوقد بفعل طريقة تحليل الوقائع والظواهر: ما يحدث في بقعة نائية من العالم، يبحث له الكاتب عن تداعيات في بقعة أرضية أخرى بعيدة عنها ظاهريا قريبة في العمق. كان الكاتب باحترافية نادرة يجد للحدث أكثر من عالقة و أكثر من معنى، وأنا وراءه أجري متساقطا قصد تتبع الأحداث والجغرافيا والأزمنة. 

كانت الحافلة تتهادى كما لو أنها تسير وحدها، والطريق إلى المعنى يحاكي المنعرجات في صعودها و هبوطها، في عقباتها وانحداراتها. تارة يتوقف المعنى وتارة يسرع أو يتسارع. والضجيج الذي يملأ الفضاء والهواء لم يكن سوى ضجيج التاريخ والوقائع والأحداث. و الدفء المنبعث من كل الجهات والأنحاء لم يكن سوى دفء اللغة و انزياحاتها. بغتة بدأ المساء يرمي عباءته على المكان، وصارت الحافلة تتباطأ إلى أن وقفت، وحينما رفعت رأسي عن الكتاب لأستطلع المكان، أفاجأ بأن الحافلة قد استقرت بي في مدينة غير مدينتي. في هدوء أعدت الكتاب إلى محفظتي ونزلت في هدوء و كلي استغراب واندهاش من أنني أخطأت الحافلة. استبدت بي هستيريا من الضحك المجنون و أنا أسارع الخطى وسط المحطة الجديدة بحثا عن وسيلة نقل أخرى تنقلني في هذا الليل إلى مدينتي. 


مجلة فن السرد | محاكاة 

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث