أنا... لستُ أنا! | يونس الشرقي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد التعليقات: 0 تعليق

 

فن السرد قصة
لوحة ل: Âme Sauvage


أنا... لستُ أنا!


واقف وسط ظُلمة حمراء، تكاد الأجساد تظهر على استحياء من بين صريمها المنهك بضباب قاتم... ضباب لُوِّن بلون الدم الأحمر، يتموج في غنج بسبب ريح غير محسوسِ النسمات، فالجو كان مخنوقا يكتم الأنفاس، وعرقي يرمي بسيله كشلالات نياجارا تزحف على تضاريس جسمي المترهل من أثر الخمول... كانت الأجساد تتهادى مناغمة ألحانا غريبة، ربما حملتها نوتات الظلام الأحمر. كانت موسيقاها مرعبة ترسل دبيبا خفيا بقلبي الحزين، حتى أنك تجد لسانك يلوك اللحن دون وعي، بل عصبونات فكرك تتخدر وتصبح تابعة أَمَةً لذاك اللحن الآسر، كأن قيودا قد أحاطت بوعيك قسرا، فأضحيت عبدا لتلك الموسيقى الآسرة.

بدأت رجلاي تتحركان من تلقاء نفسيهما، كأن لهما نخاعا عصبيا مستقلا، ومخا عليلا قد امتطى سرج تفكيرهما، وأضحى يوَجِّههما دون اعتبار لي. خانتني قدماي لأول مرة، وتمردتْ على شخصي الذي خدم هذا الجسم لأكثر من ستين سنة... كانت تتحرك بتؤدة حتى أن أنفاسي لامست أنفاس المتمايلين المترنمين من حولي... كانت وجوههم جامدة لا تحمل إحساسا ولا نبراس فراسة... غير أن أجسادهم كانت تتحرك كجثة عروس خيال الظل، يتلاعب بها حاويها بأسلاك غير مرئية مرتبطة بأطرافها وجذعها!

تقاسيمهم مرعبة... فجمود الملامح قرين للغموض والرعب. 

ظللتُ أجول وأصول بينهم، أحاول فك طلاسم ملامحهم، دون هدى ولا قبس من نور. 

بل أردت فك أحجية وجودي بهذا المكان ابتداء! 

لكن دون جدوى! 

كنت نائما بعد يوم شاق من العمل، صحوت قبيل الفجر بقليل، اتجهت إلى الكنيف الضيق الذي يقبع خارج الشقة ملامسا عتبات الدرج، وبعد إغلاقي بابه، خُطف قلبي واشتد أنينه، فتنازعني الألم وألقى حشرجة مكتومة بحنجرتي. أغمضت عيني قهرا، وما فتحتها إلا وأنا هنا... 

بهذا العالم الغريب!

وسط هذا الصخب الصامت.

نسيت أن أعاقر النظر فيما حاكته صور هذا التيه من فوق رأسي، فرفعت عيني لعلي أجد شعاعا ينير بصيرتي المتداعية المتهاوية إلى قاع الضلال السحيق...

فخُسِف ببصري، وعُمِي نظري، طَمَسَ ضياء أسود قد بعث من بين الظلال، بياضَ عَيْنَي، وعَصَرَ نور قلبي، فخنست رجلاي، حتى عانقت ركبي الأرض الزجاجية من تحتي. 

فتحتْ كفَّايَ راحتَيها متوسلة الأرض، فسَرَتْ ريح باردة حرَّكَتْ شعيرات ذراعي، ثم تحولت فجأة نارا التهمت أظافري وشعيراتي الدقيقة...

أردت الصراخ والعويل...

فسقط لساني على الأرض!

فتحت على إثره عيني التي بدأت ترسل شيئا من البصر.

اكتملت الصورة أمامي...

رأيت لساني الأزرق يتلوى كأفعى مبتورة الرأس. يتألم فيزيد ازرقاقه، ليزيد ألمي معه، كرماح مسمومة تنخر قلبي لكنها لا تقتله...

ألم لا يقاوم...

أزحت لساني من بين ناظري، وألقيت به بعيدا، فتفتت واستحال ترابا أسود قبل أن يلامس الأرض.

لكن هالني شيء آخر، زاد من قصيدة الرعب بيتا...

فقد رأيت صورتي بمرآة عاكسة قد احتلت البسيطة من تحتي...

أين ملامحي؟! 

أين قسماتي وحدود رأسي؟! 

أين خداي المتوردان؟! 

كان رأسي متذبذب الحواف، لا يعرف حدودا، كضباب أسود قد جُمِعَ ووُضِع فوق جثة لا حياة فيها...

لم يرسم هذا العالم لي تقاسيم ولا ملامح! 

أعرف نفسي... إنه أنا، لكن بلا تقسيم ولا ملامح، بل بلا رأس!

ثم بدأ جلدي ينساب ويخِر فوق الأرض، كأنه شمع كستنائي يذوب من وقع النار المشتعلة.

ثم عمَّ الظلام كل شيء.

وانطفأت شُعلة الحياة بقلبي.

----------

العاشرة صباحا...

حي شعبي...

كانت الشرطة تقوم بتحرياتها حول رجل قد جاوز عقده السادس.

سُمع صراخه بمرحاض المنزل المشترك، قبيل الفجر بقليل.

أسرع سكان المنزل إلى المرحاض... وجدوه مقفلا... حطَّموا مزلاجه وولجوه.

وجدوا جثته عارية، قد امتلأ فمه غائطا، ويعوم فوق مياه نتنة أزكمتِ الأنوف.

كان اسمه... لا يهم... اسمه رجل...

رجل اشتهر بين الناس بالنميمة والابتزاز.


مجلة فن السرد | محاكاة

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث