المبدعة يارا بوفي |
صديقيَ السّرطان
• في إحدى أيّامِ الشّتاءِ الماطرة ، كُنتُ أسيرُ في أزقةِ الشّوارعِ الضيّقة ، ليلٌ حالِكٌ قد خيّمَ باكراً في تلكَ المنطقة ، ما مِن صوتٍ سِوى أصواتِ وقعِ أقداميَ الّتي تحتكُّ بالطُّرُقِ المُعبّدة ، لا وِجهةَ لي ،
إلى أين ؟
إلى اللّامكان ، فقد جعلتُ من قلبيَ دلّالاً للطّريق ، كأحدِ قاطنيِّ هذا الحيّ ، هذا الحيّ القديم الّذي اكتظّ بمثلِ تلكَ المهنةِ في أحدِ أزمنتهِ .
تُلامسُ أنامِلُ يديّ أحجارَ المنازلِ الرّطبة ، الّتي نبتَ في ما بينِ حجارتِها بعضٌ من حزازاتِ الفوناريا الصّغيرة ، استقتْ بشكلٍ غريبٍ بقطراتِ الماءِ المُتساقطة من أحدِ السّوابيطِ المُمتدةِ بين بنائين ،
هذا الزُّقاقُ يعرِفُني و أنا أعرِفُه ، ألِفَ أصواتَنا الّتي كانتْ تعلو تحتَ عتبةِ أحدِ أبوابِ منازلهِ المهجورة ، ألِفَ محادثاتَ عيونِنا هُنا ، هُنا دوّنتُ كُلَّ شيءٍ اليومَ في أوراقِ مذكّراتي، الّتي ربّما لن أبقى لأُعاوِدَ قراءَتَها في يومٍ ما ، و قد نسيتُ متى كانتْ آخرَ مرّةٍ احتلّ فيه شَخصُك أسطُرَ أوراقِ تلكَ المُذكّرات .
أتُرى كُنتَ لي مُجرّدُ عابرِ سبيلٍ ؟
كأولئكَ الغُرباءُ الّذين تقعُ خطواتُ أقدامِهم في هذا الزُّقاق و يمرّون فيه مُرورَ الكِرامِ ليس إلّا ! ..
إنّ حجارةَ هذه المباني تعودُ بذهنيَ إلى مُخلفاتِ الذّاكرةِ العشوائيّة ، لم أكُن أُريدُ استرجاعَ تلكَ الذّكرياتِ الّتي قُمتُ بإزالتِها ، و لكنّي لا أختبئ ، لا لأنّي لستُ مثلك ، أواجهُ غلبةَ مرارِ الحقيقة ، أنا لا أنتظرُ على حافةِ الهاوية ، و لم أنتظرْ منكَ أنتَ ، لم أنتظرْ منكَ ذاك الردّ المُزدحِمَ بالكلمات، لم أنتظرْ منكَ اهتماماً في دقائقِ تفاصيلي ، لم أنتظرْ منكَ قصيدةً ما تنظُمُها لأجلي ، لم أنتظرْ منكَ أبداً ..
رجتْ بقيّةُ روحي أن تلقاكَ قبل أن تُفارِقَ هذا الجسدَ الّذي أصبحَ بالياً و مُتهشّماً تقريباً ، و لكنّكَ لم تمنحني استحقاقَ نيلِ فُرصةٍ للوداع .. بل في الحقيقةِ انتظرتُ منكَ ، و لكنّي لم " أطلب " .. .
صلّيتُ ساجدةً مُبخّرةً روحيَ بهيكلِ الرّب ، راجيةً بمُعجزةِ خلاصٍ تُحررْني من لعنةِ قيودِكَ تلكَ الّتي كبدّتني بها ، و حقاً أنّ المُعجزةَ قد تحقّقتْ فعلاً بفضلِ المُدّعي ب " ذاكَ المرض " الّذي يخشى النّاسُ ذِكرَ اسمه حتّى أمامَ بعضهم البعض ، قاتِلُ البشرِ الصّامت ، " صديقيَ السرطان " .
كان يعملُ ما بوسعِهِ من جهدٍ في أرجاءِ قلبي ، سيطرَ على كياني و استحوذَ عليه ، جعلني في حالةِ سكونٍ مُخيفٍ ، كُلُّ ما فيّ يتداعى بصمتٍ باردٍ ، باتَ الهُشاشُ حُطاماً الآن .. .
و لأنّه مثليَ تماماً ، يخشى الفُقدان ، سرى في أوردتي و تسلّلَ كالّلصِّ ، على الرَّغمِ من أنّه حَسّاسٌ للغاية ، لكن هل مِن أحدٍ يُجيدُ فهمَهُ ؟ ..
ألم أكُن مثله ؟
هاها ، و كأنّي كُنتُ معكَ طيلةَ الأيّامِ ك " سرطانٍ مُتنقّلٍ " يأبى الرّحيل .
على الأقلِ أنا لم أتنكّرُ لوجودِهِ معي ، مثلما فعلتَ أنتَ بي، لم أُخفيه خوفاً من ناقلي الكلام ، لم أبكي خاشيةً من فُقدانِ حياتي فقد كُنتَ أنتَ الحياةَ لي و خسِرتُها سابقاً ، لم تُسبّب لي فكرةُ الخسارةِ ألماً ، لم أسمحْ لها بإلاميَ حتّى، لأنّي واجهتُ خسارةً مثلُها ، الألمُ الّذي كان ينغرِسُ في قلبيَ بِتُّ أنا مَن أجعلُهُ يتألّم لعدمِ اكتراثيَ له ، و هذا ما تعلمتُهُ منكَ أليس كذلك ؟
هاها ، و قد تحقّقتْ العبارةُ الّتي تقول " تغلّب الطّالبُ على مُعلمِهِ " .. و رُغمَ كُلّ شيءٍ فصديقيَ السّرطان كان " وفيّاً " أكثرَ منكَ ... .
فيما أُنهي الصّفحةَ الثّانيةَ من مُذكّراتي الّتي لن تقرأَها حتّى و لكنّها على الأقلِّ ستبقى في إحدى الأماكنِ بينما سيُحاولُ العديدَ ممّن أحبّوني البحثَ عن كلماتي ، و أكونُ قد غادرتُ مُنذُ وقتٍ طويل ، رُبّما ستقعُ هذه المُذكّراتُ في يديكَ و تقرأَها ، عندها أُريدُ أن أشكُرَكَ لِما جرى ، فأنا سأكونُ في عالمٍ أفضل أُحدّثُ فيه الله و النّاس عنكَ لتكونَ الخاتمةُ هي ذاتها البداية ... .
مجلة فن السرد| مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا