خلاف بسيط | بلال الخوخي

الكاتب: بلال.ختاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد

تخترق الشمس رأسي وتتمركز حرارتها داخله كما لو أن الكواكب تقيم حفل شواء. عيناي تقاتلان من خلف الجفون الضيقة، تختطفان صورا مغبشة بشعيرات الرموش؛ أرى تموجات تنبع من الحصر والرؤوس التي أحسبها تُطبخ مثل رأسي. أجتهد في التركيز على الأصوات الواردة من مكبر الصوت: "لقد حرص الشارع على حفظ حقوق المرأة ورعايتها كي لل تتعرض للظلم والعدوان، حيث جاء في الحديث…". تتشبث كلمة "الشارع" بأهداب عقلي العاجز عن تفسيرها بينما يتلاشى كلام الخطيب؛ لعله يقصد هذا الشارع المكتظ بالأجساد المحترقة فوق الحصر المبثوثة بسبب ضيق المسجد. يبدو أن هذا جزاء المكتفين بتقريب البيضة مقابل النعيم الذي يحظى به أصحاب البدنة بين ظلال الجدران.

لم تُقم الصلاة إلا بعد أن زنت أذني كما لو دخلتها ذبابة النمرود. أنفّذ الحركات بعفوية سَكَنَتها مع تراكم السنين، ثم أنصرف بعد السلام مباشرة حاملا رأسا تُضرب فيها نواقيس الألم. أغير الطريق التي قدمت منها قبل الصلاة، لا بحثا عن حسنات إضافية، بل طلبا في ظلال الأشجار المتربعة على جنباتها.

في المنزل، تَخز أبخرة الند خياشيمي فأسعل؛ تطل أمي من باب المطبخ مستفسر ما بي، أشير لها أن لاشيء بينما تلازمني الكحة؛ فتملأ كأس ماء وتقدمها لي. أحس بالماء يرطب حلقي وبطبطبات أمي على ظهري تلطف نفسي. تستدير نحو المطبخ، وعندما أهدأ تخبرني أنها استمعت لخطبة اليوم وما فيها من حث على حفظ حقوق المرأة؛ منذ صارت المنابر تذيع نفس الخطبة، جنحت أمي عن سؤالنا حول محتواها. لقد كانت سابقا تشتكي منا _أنا وأبي وأخي_ حين لا نتحد في الجواب عن سؤالها حول الخطبة؛ فأبي الذي صلى في الحي يخبرها بغير ما أخبرها أنا، فتتلون عليها المواضيع ولا تستطيع تذكرها، أما الآن، فيكفيها أن تشغل التلفاز أو الراديو لتسمع نفس ما نسمع. أخبرها أن قرار الدولة بتوحيد الخطبة ليس حكيما، فتجيب: "وهل من الحكمة أن تثقلوا رأس بألف جواب كل جمعة؟"، أبتسم لها وأنسحب مستنشقا عبق الكسكس بالسمن.

على المائدة تُكرر أمي ما سمعت حول الخطبة، يعجبها أن تستعرض علينا ما كنا _في نظرها_ نستأثر بها وحدنا، يرد أبي ضاحكا: "إن أجمل ما في توحيد الخطبة أن ولديّ صارا يصليان معي في مسجد الحي، وإن في صفوف متباعدة"، أضحك أنا في حين يتجهم أخي عثمان؛ فقد اتخذ من القرار موقفا شخصيا متعصبا كما لو أنه يعنيه مباشرة. يهيمن للحظات صوت الملاعق، ثم يتخللها كلام أخي موجها نظره نحوي: "تخيل أنك تظل تحفظ القرءان وتجتهد في علوم التفسير والحديث ثم تصارع كي تصير خطيبا مجيدا، وبعدها، ينحصر دورك في قراءة ورقة يستطيع أي تلميذ في الابتدائي أن يتلوها ببساطة، أليس في ذلك إهانة كبيرة لك وللعلم الذي أفنيت عمرك تحصله؟ تدرس كي تعمل بوقا في المسجد؟"، أضحك من قوله فتجيب أمي: "يهديك الله يا بني"، يتدخل أبي محاولا إنهاء هذا النقاش: "دعوا عنا كل هذا، المهم أنها خطبة دينية في آخر المطاف، ولا تعارض الحلال والحرام"؛ يندفع أخي أكثر من أجل إثبات رؤيته: "بل هي الحرام نفسه، شيء لا يتقبله عقل ولا دين، كيف يعقل أن تبث كل المنابر الخطبة نفسها في الوقت نفسه؟ فلنبق في منازلنا ولنصل مع التلفاز أحسن. أو، فليقيلوا كل الأئمة، يكفي إمام واحد ومسجد واحد، أم أن العبرة في الصور ورش العطور وتأبط السجادات؟". ينتابني إحساس بأن الحديث لامس حدود جرح النفوس؛ أغمز لأخي فيفهمني ثم أقول: "معك حق يا أخي، لكن لا بأس إن كانت أمي تجد في ذلك سلواها، فهاهي ذي تسمع الخطبة نفسها كأنها حاضرة معنا، فلا يحملها ذلك على كثرة سؤالنا كل جمعة"، يظهر أخي موافقته ويقول: "نعم نعم، يحق لأمي ذلك"، ثم يمد لي كأسه الفارغة ويطلب مني أن أملأها باللبن. 

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث