مللتُ من تقديمِ نفسي إليها، إمّا أنا بنتٌ غيرُ صبورٍ، إمّا أنّ هذه المعلّمة غريبةُ الأطوارِ. تسألُني على أقلّ تقديرٍ "ما هو اسمُك يا حلوة؟" ثلاثَ مرّاتٍ في الأسبوع. لا أعتقدُ أنّها ضعيفةُ الذّاكرة فهي تحفظُ مقاعدَنا المخدَّرة، لونَ كراسينا الرّتيبة، أشكالَ خطوطنا الفتيّة، تعرّجاتِ كراريسنا، بل وتحفظُ نبراتِ أصواتِنا، وأكثر من ذلك، هي تلاحظُ بدقّةٍ تغيّراتِ هندامِنا وإلّا فلمَ امتدحَت معطفَ "دانيال" الأحمر الجديد؟ ولماذا سألت عن سببِ عدم اعتمارِ "جاد" القبّعة الصّوفيّة السّوداء ذات الأرنب البرتقاليّ؟ إنّها تتذكّرُ كلّ تفصيلٍ تقريبًا، كلّ شيء إلّا اسمي!
بدأتُ أضيقُ ذرعًا بها وبألعابِها السّخيفة. تخيّلوا، دخلت علينا اليومَ صباحًا وفي جعبتها سلّةٌ عملاقةٌ من قشٍّ متّسخ؛ ليس متّسخًا حرفيًّا، لكنّ اللّونَ ذهبيٌّ معتمٌ يتأرجحُ بين الأصفر والأسود بصورةٍ مزعجة أقلّه بالنّسبة إلي. الشّمطاءُ تقرأُ عينيّ دائمًا! وإن يكن! فلتعرف أنّ ذوقها مقرف. تنظر إليّ وتبتسم قائلة: لم تعجبكِ السّلّة يا حلوة أليسَ كذلك؟ ذكريني باسمك ...
هاهي
تُخرج صورًا وملصقاتٍ لأشكال متنوّعةٍ من المخلوقات: بنت شقراء، صبيّ قصير، أميرة
بتاجٍ يكبر محيط رأسها، أسدٌ غير مخيف، قطّ بضخامة دوبرمان، رجل فضاء ... الرسم
الوحيد الذي لفت انتباهي هو الفانتوم (الشبح) بعينٍ واحدةٍ والذي ... يشبهها!!
تريدُ
منّا أن نطلقَ الاسمَ المناسبَ على كلِّ رسمٍ، وقد رصدَت جائزةً
"ثمينةً" لمن يحصد عددَ إجاباتٍ صحيحة أكثر!! هل ينبغي أن أشرحَ لكم
لماذا لن أشاركَ بهذه المنافسةِ السّاذجة؟
أضيفوا
إلى ما سبقَ أنّها لا ترى من بين الطّلبة إلّا المدعو "حسين"، ذلك
الصبيّ كثير التّغيّب عن الفصل، والذي لا يستخدم المناديل لتنظيف أنفه دائم
الزّكام! "حسين إرفع يدك أكثر كي أراك .. بغافو حسين أنت ولدٌ عبقريّ ..
أحسنت يا بطل، كرّر الإجابة بصوتٍ مرتفع كي يسمع زملاؤك (وكأنّنا صمٌّ) .. هوباااا
حسين يفوزُ بالجائزة! تصفيق حارّ يا أولاد!!
لماذا لا تصفّقين يا صغيرة؟ ما كان اسمك؟؟"
تقترب من "حسين"، تُخرج من كيسٍ ورقيّ زوجًا من الأحذيةِ، أسود اللون برّاقه، بربطاتٍ داكنة، داخله فروٌ بنيّ جعلت تُرينا جماله حاملةً إيّانا على ترديد ألوانه بالفرنسيّة الملتوية!! نزعت حذاءَه القديمَ المتآكل، وراحت تُدخل قدمية في الحذاء الجديد "المبهر" وهي تهمس بأذنه أن يتجنّب برك الماء عند قطعه تلك المسافةَ الهائلةَ من بيته إلى المدرسةِ سيرًا على أقدامه النّحيلة.
حذاء؟؟
ما كنتُ لأفرحَ بهديّةٍ كهذه! هذه المعلّمة شديدة الغباء، لا
تتوقّف عن إثباتِ ذلك وأنا لا أثق بها.
أخبركم ماذا فعلت مرّة؟ - وسأشي بها للمدير يومًا ما - كانت متكاسلةً عن شرحِ درسٍ جديدٍ، فجلست إلى كرسيّها بعد أن وزّعت علينا أوراقًا بيضاء لنرسمَ ماذا نريدُ أن نصبحَ عندما نكبر. أنا لا أريدُ أن أكبر، صارحتُها بالأمر لكنّها أصرّت على أن أرسم شيئًا، أيّ شيء.
فكّرتُ بعملٍ يمكنني القيام به: قطعًا لن أكون مدرّسةً خرقاء! ولا طبيبةً تعذّب النّاس بالإبر! ولا مهندسةً تناطح السّحاب، فوبيا المرتفعات! ولا بائعةَ حلوى تأكل ممّا تصنع فتتسوّس أسنانُها، ولا ... مهلًا! لماذا لا أشتري باصًا كبيرًا وأنقل الأولادَ من وإلى المدرسة؟ سأفعل كل ما لا يفعله "أبو محمّد" من أجلي: سنغنّي غناءً جماعيًّا في الذّهاب، سنطلق العنانَ للبوق على طول الدّرب، ولا بأس بإثارة هلعِ الحمقى في الطّرقات، عندما نتوقّف أمام البيوت سنمنحُ أنفسنا بعض الوقت لنشتمَّ روائح الطّعام المتصاعدِ من بيوت القرية، وسنفضح الوجبات على الملأ! في الأيّام الحارّة سنتوقّف عند العيونِ لنتراشقَ بالماء العذب، وفي الأيّام الباردة سأتوقّف عن العمل لينالَ الجميعُ أقساطًا من الراحةِ والدّفء، و ... قد أدهسُ معلّمتي هذه وأدّعي أنّني لم أقصد! عمومًا لن تشتكي ضدّي لأنّها على الأرجح لن تذكر اسمي!
بعد
فراغِنا، كانت تقرأ الرّسوماتِ وتعلّق بسعادة على ما تراه، حتّى أمسكت بورقتي
فبرطمَت: لمن هذه الورقة الغريبة؟ لا تحمل اسما حتّى!!
أدارت
الورقة نحونا وهي تسأل عن أحدهم قد رسم بنتًا تصرخ من قدمِها العالقةِ تحتَ عجلةِ
باص!! رفعتُ
يدي على مضض! راحت تضحك ضحكًا جنونيًّا،
أخبرتكم أنّها غريبة الأطوار، وأضافت: تؤلمكِ قدمك؟ هل سبق أن دهسك باص يا حلوة؟؟
ههه هيّا أمْلي عليَّ اسمكِ كي أدوّنه!
بنزقٍ، وبصوتٍ غاضب قلتُ: ثبردج! إثمي ثبردج يا آنثة!!!
مجلة فن السرد/ محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا