الكاتبة منى الجبريني |
إيزيس
لمحتها بين أنقاض مهترئة ، تتلمس دربًا إلى
النور ، هالني جزعها ، مواؤها يستنجد بي . أقترب منها في حذر ، تبرز أنيابها في
تحفز ، لكنني أشير لها أن تهدأ . أرفع بعض ألواح الخشب التي تحاصرها ، بينما
تتابعني بعينٍ ضيقة ، و ملامح متحجرة
. أنجح في تحرير القطة من أكوام الطوب و
ألواح الخشب ، التي كادت تخنق روحها ، ثم أتراجع للخلف ، أهتف للقطة أنها صارت في
أمان . تقفز برشاقة ، متحررة من أنقاضها ، ثم تستكين أمامي في خشوع ، تحدق نحوي
بصمت
.
ألوِّح لها مودعة إياها ، ثم أستمر في
طريقي إلى المنزل ،لأجد القطة في إثري ، أبتسم لها في حبور ، أعتزم رعايتها في
بيتنا ، لكن والدي و أمي يرفضان ، يتعللان بكون أمي تخشى القطط ، أنني لا أزال في
التاسعة من عمري و لن أقدر على الاعتناء بقطتي .
خضعت لرغبات أسرتي ، تخليت عن القطة ،
لكنها لم تكن تعرف كلمة لا . في الصباح ، أجدها أمام منزلي ، تنتظرني ، بلهفة
واضحة ، تنهض من سُباتها ، ثم ترافقني الطريق نحو المدرسة ، أشاركها إفطاري اليومي
، ساندويتشات البسطرمة ، الجبن الرومي ، تلتهم ما أمنحها إياه بامتنان .
تتسلل ببراعة إلى فصلي ، تتوارى أسفل قدمي ، أثناء وجود المدرسين ، ثم في الفسحة ، يحاول أصدقائي مداعبتها ، فتُكشِّر عن أنيابها ، لينفروا منها ، مرتعدين ، يخبرونني أنها قطة غادرة ، لا ينبغي أن أمنحها الأمان ، لكنني لم أكترث لهم .
تمر السنوات ولا تزال قطتي إيزيس رفيقتي ، تحميني من أصدقاء السوء ، كائنات الليل المتربصة بي دومًا، كما اعتادت أسرتي الاعتناء بها ، بين الحين و الآخر ، لكنهما لم يسمحا لها بالدخول، حتى أتت اللحظة الحاسمة .
"سنغادر المنزل و ننتقل إلى بيت جديد"
نزل الخبر كالصاعقة ، حاولت أن أقنع
والدي بالاحتفاظ بالقطة لكنه أبى .. أقسمت لأمي أنني لن أعصي لها أمرًا ، مقابل
الاحتفاظ برفيقتي ، لكن كل توسلاتي ذهبت أدراج الرياح . الأيام التي سبقت انتقالي
كانت مريرة ، خانقة ، أحاول معاملة إيزيس بقسوة كي تغادر حياتي ، أخبرها أنني لن
أستطيع البقاء معها طويلا , فتستكين فوق ساقي ، لأمرر أناملي على فرائها في حنان .
الليلة الأخيرة قبل مغادرتنا المنزل ،
ظلت إيزيس تئن في أسى ، قلبي يتفطر من الحزن ، بينما لا أقدر أن أفعل شيئا ،
أمنحها بعض اللبن الساخن ، فلا تقربه ، تنأى بنفسها بعيدًا ، تحدجني بنظرات
مُعاتبة . أتحاشى عيناها ، بينما أستدير عائدة إلى حجرتي ، أتدثر بالألم ، متمنية
أن يأتي الفجر ببارقة أمل
.
سكون المنزل يمزقه صياح العمال ،
بينما ينقلون أثاثنا فوق سيارة النقل، أنتفض من فراشي بحثًا عن إيزيس ، لكنني لم
أعثر عليها ، نادتني أمي أن استعد للمغادرة ، فأسرع بارتداء ملابسي ، ثم أقفز فوق
سيارة النقل ، بجوار حقيبة كتبي ، خلفي تتكدس حاجياتنا . تضمني والدتي بين ذراعيها ، تخبرني أن منزلنا
الجديد سيعجبني ، تحدثني عن مزاياه العديدة، بينما قلبي تتهاوى منه قطعة داخل
منزلنا القديم ، حيث ألمح إيزيس ، أسفل
المنزل ، دون حراكٍ ، بلا أي أثر للحياة .
مجلة فن السرد/ محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا