صَوْتُ الْجِيلِ الْجَدِيدِ
فِي الْقِصَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُعَاصِرَةِ
"فَالْأَجْيَالُ الْمُؤَسِّسَةُ
لِلْأَدَبِ لاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِي فِي أَثَرِهَا أَجْيَالٌ لَهَا عَيْنٌ عَلَى مَا
كَانَ، وَعَيْنٌ عَلَى مَا سَيَكُونُ".
جلال برجس
تَحتلُّ القصّةُ المغربيّةُ القصيرةُ مَكانةً متميّزةً
بينَ الأجناسِ الأدبيّةِ ووسائطِ تلقيها وتداولها، إذ تسيرُ جنباً إلى جنبٍ مع
الرّوايةِ والشّعرِ، فإذا كانت الرّواية أمّ الأجناس الأدبيّة، لأنّها تحتويها
جميعا، تقدّمُ صورةً وافيةً للأشياءِ والشّخصياتِ والموجوداتِ، فإنّ القصّةَ
القصيرة فنٌ سرديٌّ قصيرٌ لمّاح، يعتمد
على التّركيز والعِبرةِ والقدرةِ على النّفاذِ إلى الذّاتِ الإنسانيّةِ والتّعبيرِ
عنها، كما أنّها أقدر من الشّعر على "طرح أزمة الواقع ورصد ظواهر الحياة
اليومية والإجابة عن الأسئلة الجوهرية الّتي يلقيها زمن الصّعود والهبوط العربيّ
في مختلف القضايا"، وتساعدها في ذلك خصائصها كالتّكثيفِ وقوةِ الأثرِ... ومن
جهة أخرى، مساحاتُ النّشرِ الإلكترونيِّ والورقيِّ، والنّدوات والملتقيات والجوائز
المخصص لها... وتقوم بعض الهيئات الثّقافيّة بدورٍ فعّالٍ في إشعاعِ القصّةِ
المغربيّةِ القصيرةِ الرّاهنةِ واخضرارِ ربيعها علَى مرِّ الفصولِ.
مع بداية الألفية الثّالثة تراجعتِ القصّةُ الواقعيّةُ
والأيديولوجيّةُ، وانكسر النّموذج القصصيُّ المعيارُ، ذلك الّذي عمّر طويلا،
وأصبحنا أمام حساسيّةٍ جديدةٍ قِوَامُهَا السّحريّةُ والدراميّةُ، تنطلقُ من فهمٍ
عميقٍ للواقعِ/ الكائنِ، لتتجاوزه إلى واقعٍ ممكنٍ، وتُسَرْدِنُهُ جماليّاً عبرَ
مغامرةٍ تجريبيّةٍ ترومُ البحثَ عنْ أفقٍ سَرديٍّ تَنويريٍّ.
في هذا السّياقِ؛ نقفُ بعُجالةٍ عند مجموعة من الأصوات
القصصيّةِ المُتميّزةِ من الشّباب المغربيّ، من مختلف المدن المغربيّة: أحمد شرقي(المحمدية)،
وعبد الجليل الشّافعي(سيدي قاسم)، وفاطمة كطار(مكناس)، وعبد الجليل ولد حموية(الخميسات)،
وعبد الرحيم شراك(وجدة)، ويونس شفيق(الفقيه بنصالح)، وإلهام إسلامتي(فاس)، سعيد
الفلاق (الرباط)، وخديجة عماري(ميدلت)، ويوسف كرماح(القنيطرة)، ونصرالدين شردال(تاونات)،
ومحمد العمراني، وعيسى الناصري(خنيفرة)، وحسناء آيت الحسن(أكادير)، هشام أزكيض
(تزنيت) والقائمة طويلة.
تتفاوتُ هذه
التّجاربُ فيما بينها شكلاً ومضموناً وقيمةً، وتجمعها روابط وقواسم مشتركة؛ أهمّها
تجايلها زمنيا ومصيريا، والاشتراك في التّعبير عن همّ المرحلة وآفاقها، والانفتاح
على القضايا الإنسانيّة المستجدّة بشكلٍ لا يخلُّ بالكتابةِ القصصيّةِ النّاجحةِ.
للقاصة الشّابة حسناء آيت الحسن قدرة هائلةً على الإنصات إلى لواعج وخوالج المرأة
المغربيّة ومشاكل الشّباب والشّابات وطموحهن، والتقاط تلك اللّحظات العابرة من
حياتهن في غفلة منّا، وسَرْدَنَتِهَا بشكلٍ جماليٍّ.
أمّا القاص عبد
الجليل ولد حموية فهو ينفردُ بأسلوبٍ ساخرٍ ومؤلمٍ، مع إغراقهِ
التّأملاتِ الميتافيزيقيّة، لكنّه في نهاية قصصه يطرحُ قضايا فلسفيّة تنويريّة،
وإن كانت له رؤية سوداويّة وساخرة في آن، فإنّ قصصه تحقق لذة مختلفةٍ.
تكادُ تجربة
القاص محمد العمراني تتشابه مع تجربة القاص عيسى الناصري في
محاولتهما كتابة قصة قصيرة بأفقٍ كونيٍّ لا تبث للقصةِ المغربيّةِ بصلةٍ، الأمر
الّذي يطرحُ أزمةَ تلقيها في الوسط المغربيّ، وذلك ناتج على ارتيادهما آفاقَ القصةِ
القصيرةِ والرّواية العالميّة بشكلٍ مستمرٍ.
القاص عبد الرحيم شراك المحمل بتراث الجهة
الشّرقيّة، فإنّه أقرب إلى القصة العربيّة في بعدها الإسلاميّ التّربويّ، ومرتبطٌ
أشدّ الارتباط بالهوية والعروبة والتّاريخ... هذا في بداياته القصصيّة، لكنّه أصبح
يكتب قصصاً مختصرةً، ومدهشةً ومعبّرةً.
ولا تنفك القاصّة الشّابةُ فاطمة كطار في
مجموعتها القصصية "من أين يأتي الضّوء؟" أن تنشغل بالثّقافة المغربيّة
الشّعبيّة، هكذا جاءت مجموعتها وكأنّها بحث سوسيولوجيّ جماليّ يسعى إلى هندسةِ السّماتِ
الاجتماعيّةِ بلغةٍ تمتحُ من لغةِ المحكيِّ واليوميِّ، تبدو قصصها امتدادا لأجواء
قصص كلّ من محمد زفزاف ومحمد شكري وإدريس الخوري...
يعدُّ القاص يوسف كرماح من أنشط الأسماء القصصيّة
وأكثرها نشرا، بحيث نشر ما يزيد عن ثلاث مجموعات قصصية، وإن كان يبدو متأثرا شأنه
شأن فاطمة كطار بمحمد زفزاف وشكري، إلاّ أنّ له جرأة زائدةً، وأسلوباً خاصاً
يجمعُ بينَ المقالةِ النّقديّةِ والقصّة القصيرةِ، دافعاً بالقصةِ المغربيّةِ
الجديدةِ إلى نوعٍ جديدٍ من التّجريبِ، فإذا كان قد أكثرَ من الطّابع الإيروتيكي
في مجموعته "سيمفونية العري" فإنّه في مجموعته "نقد العقل
المتحجر" (وهي إحدى أجمل مجاميعه القصصية)، يوظفُ التّجريب السّرديٍّ بشكلٍ
أجمل، عبر جمعه بين القصة والمقالة، أو المقالة القصصية، يجمع متعة السّرد وحصافة
النّقد، ولعلّ قصته "فسحة المعراج" إحدى روائع هذه المجموعة النّاقدة.
في مجموعتها القصصية "وردة من قصر الحمراء"
تكتب القاصة إلهام إسلامتي قصص قصيرة شعرية؛ وإن لم يكن فيها حدثاً مركزياً،
فإنّها تستطيعُ إقناعناَ بتلك الرّومانسيّةِ الحالمةِ المُنْسَابَةِ في السّردِ،
وتلكَ العوالمُ المُدْهِشَةُ عبر السّفر إلى جغرافياتٍ متعدّدة، وتأزمنا بذلك التّشظيّ الّذي تعشيهُ معظم شخصيات قصصها.
تقترب منها
القاصة خديجة عماري وإن كانت أكثر تمرسا بالقصة وطرائق بنائها الفنيّ
المحكم، وذلك راجعٌ إلى تكوينهاَ الأكاديميِّ في السّردِ الحديثِ، فإنّهاَ استطاعتْ
أن تؤسسَ تجربتهاَ الخاصةَ بدءا من "قصاصات من حياة امرأة"، ومرورا
بـ"الفوتوغرافيّة"، وليس انتهاءا بـ"ثمرة الصّنوبر" تسعى
القاصة إلى الدّفاع عن قضاياَ المرأةِ المهزومةِ، في صور قصصية مركزة تجعل من النّساء
بطلات قصصها في محاولة لتقويض فحولة الرّجل والكشف عن أنساقِ سلطتهِ، وأهمّ ما
يميّز أعمالها الأخيرة، هي الانتقال إلى الاشتغال على الفنون السّمعيّة البصريّة
وطرق قضايا الإنسان الكبرى عبر استبدالها اللّغة الاحتجاجيّةِ باللّغةِ الهامسةِ
الشّاعرةِ.
أما القاص الشّاب يونس شفيق في مجموعته القصصية
"رسائل على الميسنجر" نجد قصصا/ رسائلَ إنسانيّة مشفرة، وأجمل ما فيها،
تلك النّهاية المؤلمة، الواخزة للضمير الإنسانيّ، في نهاية قصته تبدأ قصص أخرى! ولعلّ قصته
القصيرة "تازيري" الّتي تعالجُ مشكلةَ التّعليمِ في العالمِ القرويِّ
وتزويجِ القاصراتِ، إحدى أهمّ قصص المجموعة.
ومن مدينة مشروع بلقصيري يطّل علينا القاص الشّاب عبد
الجليل الشّافعيّ النّشيط بمجموعتين قصصيتين متميزتين هما: "المرأة الّتي
في الأعلى"، و"رحى لا تكفّ على الدّوران"، ترصد قصص المجموعتين
قضايا الطّفولة، وهشاشة المجتمع المعطوب، تبرز مواقفَ
من مجموعة القضايا الإنسانيّة بشكلٍ عامٍ، قصص بلغة "السّهلِ الممتنع"،
لكنّها ليست مباشرة، له ولهٌ ولعٌ بالبلاغة العربيّة، والكلام المأثور الّذي يسخره للتعبير عن الهامش
المنسيّ والمَقْصِيِّ، ومن ثمَّ، فإنّ كلّ قصصه انتصارٌ للإنسان المطحون، وشهادة
ضدّ الزّمن الّذي لا يكفُّ عن الدّوران. وفي سياق آخر، يسعى القاص نصرالدين شردال
في مجموعته القصصية "في مهبّ الضّوء" رصد ضياع الإنسان المعاصر في مهبّ
الرّقميات والتّكنولوجيا وغربة المدن الّتي لا قلب لها.
في مجموعته القصصيّة الأولى "عوالم شفافة"
والثّانيّة "نسخة عالية الجودة" يكتب القاص أحمد شرقي قصصا قصيرة
تجريبيّة بنكهةٍ سرديّةٍ عاليةَ الجودةِ، قصصٌ متعدّدةُ الأساليبِ والتّقنياتِ،
تستفيدُ من السّينما والفنّ التّشكيليّ والشّعر في خلق عوالمَ إنسانيّةٍ
متفردةٍ.
بالإضافة إلى هذه الأصوات القصصية الشّابة، هناك أصوات
أخرى لا يسعفنا الحيّز الزّمني للقراءة لها قراءة وافية، أو الوقوف عند منجزها
السّردي وقوفا وافيا، وهذا ما سنستدركه في مستقبل الأيام.
خاتمة:
لقد أصبحَ القاصُ المغربيُّ الشّابُ يسايرُ تموجات
واهتزازات العالم العربيّ، حيث أصبحت للموضوعات الجديدة صدى مباشرا في قصته
القصيرة.
تتابعُ القصةُ المغربيّة القصيرةُ مجريات الأحداث العربيّة
وتطوراتها، وما ظهر من أشكال التّعصب والتّطرف والإرهاب، والقتل الجماعيّ باسم
الدين، كما تنشغل هذه القصص برصدِ العوالمِ المظلمةِ في أحشاء السّجون وما يتعرض
له الإنسان من قهر وظلم وتعذيب نفسي وبدني، هكذا تصبح الكتابة القصصية خلاصا،
وشكلا من أشكالِ "المواجهةُ والتّأسيس"، وشكلا من الحياة، ضدا في الموت،
من أجل تدوين الشّهادة، وتحويل الكتابة إلى حياة.
لم تعد القصة المغربيّة القصيرة مع هذا الجيل الجديد،
تعتني بالحدث فقط، أو الشّخصيات وتحوّلاتها، في علاقتها بباقي المكونات السّرديّة
الأخرى، بل أضحت حاملة لبنى ثقافيّة تستمد مرجعيتها من حقول شتى دينيّة واجتماعيّة
وفلسفيّة وتاريخيّة... فصارت تضطلع بمهمة أخرى، إلى جانب المُتعةِ والأثرِ، وهي
مهمة التثقيف.
وأهمُّ خاصيّة جماليّة تلفتُ انتباه القارئ؛ هي خاصية
الشّعرية، فبعض القصص تستفيد من الشّعر في بناء عوالمها المتخيلة، وفي تغذية
نسيجها اللّغوي باللّغة السّاميّة...
تستفيدُ من
الشّعرِ العربيّ والغربيّ قديمه وحديثه في بناءِ عوالِمها النّصيّةِ، حتّى يلتبّس
على القارئ أحيانا هل يقرأ نصا قصصيا أم شعريا، وقد يجري النّهر السّرديّ دفاقا
بالشّعرِ، ثمَّ ينعطفُ إلى الأحداثِ وتفاصيلهاَ، والشّخصياتِ وأحداثِهاَ، و تتلوّنُ
اللّغةُ السّرديّةُ الّتي تَحكي وتَسردُ، باللّغةِ الشّعريّةِ الّتي ترمز وتسحر
وتدهش.
لا نجانبُ الصّوابَ النّقديَّ إذا قلنا إنَّ القصةَ
المغربيَّةَ القصيرةَ الَّتي يكتبها الشّبابُ المغربيُّ الآن، تقف في طليعة أدبنا
العربيِّ الهادفِ والملتزمِ، وهي من أعمقِ وأجملِ القصصِ العربيّةِ، وأقدرِهاَ
غوصاً ونفاذاً إلى جوهرِ الإنسانِ والأشياءِ، تقبضُ على اللّحظة الزّمنيّةِ وتأرخ
لها، وتستشرفُ المستقبلَ الأجملَ، من ثمّ، فهي موقفٌ من العالمِ، ورؤيةٌ منهُ
وإليهِ.
نَخْلُصُ من خلال تأمّلنا النّقديّ للمشهد القصصيّ
المغربيّ الرّاهن، أنّ هناك جيل أدبيّ جديد يتشكّلُ، يريد أن يُسْمِعَ صوته، ولهُ
لغةٌ جديدةٌ، وعيٌّ أدبيٌّ جديدٌ بواقعِ المرحلةِ، رؤيةٌ أدبيّة تتجاوزُ حدودهَا،
وميراثهَا، تحاولُ أن تختطَ لِنفسهَا برزخاً جديداً، واقتراحاتٍ جماليَّةٍ شتى،
ورؤيا للعالم، رؤيةً جديدةً تحاولُ تجاوزَ الكائنِ إلى الممكنِ المأمولِ، عبرَ
رِحْلَةِ الْكِتَابَةِ الْقَصَصَيّةِ، رحلة البحث عن الضّوء، رحلةٌ شاقةٌ،
يَخُوضُهَا القَاصُ الشَّابُ بكلِّ نُبْلٍ وَعَزِيمَةٍ، إِنَّهَا رِحلةُ البَحْثِ
عنِ الضَّوْءِ.
مجلـــة فــــن الســــرد
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا